بعد ما يزيد على القرن من محاولات الإصلاح الدّينيّ، يبدو أنّ أبواب الاجتهاد لم تفتح، أو لم تفتح من داخل العلوم الدّينيّة كما كان متوقّعا، بل تعفّن الاجتهاد نفسه، ليفرز لنا هذه الفتاوى عن الإفرازات البشريّة، فتوى "رضاع الكبير"، وقد أصبحت غنيّة عن التّعريف، وفتوى التّبرّك ببول الرّسول وعرقه وفضلاته وبصاقه. قال صاحب الفتوى الثّانية، وهو مفتي الجمهوريّة المصريّة، إن "الأساس في فتوى تبرك الصحابة بـبوْل الرسول هو أن كل جسد النبي، في ظاهره وباطنه، طاهر وليس فيه أي شيء يستقزر (كذا، والمقصود : "يستقذر") أو يتأفف أحد منه، فكان عرقه عليه السلام أطيب من ريح المسك وكانت أم حِرام تجمع هذا العرق وتوزعه على أهل المدينة." وقال أيضا : "فكل شيء في النبي صلى الله عليه وسلم طاهر بما في ذلك فضلاته، وفي حديث سهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال : والله دخلت على كسرى وقيصر فلم أجد مثل أصحاب محمد وهم يعظمون محمداً، فما تفل تفلة إلاّ ابتدرها أحدهم ليمسح بها وجهه..." (المصري اليوم"، 23-5-2007)
وما أنتجه الاجتهاد المتعفّن في الحالتين هو ما لا يحتمل، وما يدعو العاقل إلى التّأفّف، وما يبعث على القرف الذي عبّر عنه المئات من الكتّاب والمعلّقين، رجالا ونساء، مؤمنين وغير مؤمنين.
إنّه الواقعيّ عندما يغزو الحياة في عرائه، وعندما لا يتكفّل الرّمزيّ بإنتاج مسافة ولغة مجازيّة تعبّران عنه وتترجمانه داخل اللّغة نفسها. كان يمكن مثلا أن يصدر شيوخ الإسلام فتوى تعتبر الزّميلة امرأة "محرّمة" على نحو ما، وكان يمكن أن ينطلقوا من النّصوص الدّينيّة ومن اللّغة لتأويل "محرّمة" على أنّها "محترمة" في كيانها وإرادتها، دون أن يمرّ هذا الاعتبار بفعل الرّضاعة وبالالتقام المادّيّ للثّدي. وكان يمكن الاستغناء عن ذكر تفاصيل التّبرّك ببول الرّسول وإفرازاته الأخرى، باعتبار طهارته غير مادّيّة بل رمزيّة. فالطّهارة مبدأ رمزيّ مختلف عن النّظافة، والتّمييز بين النّظافة والطّهارة من المبادئ المعروفة في الأنتروبولوجيا والأتنولوجيا، وتحديدا في مبحثهما عن الطّقوس الدّينيّة، وهو مبحث يعتمد ثنائيّتة الطّهارة والنّجاسة، بدلا عن ثنائيّة النّظافة والقذارة. خلط هؤلاء الشّيوخ بين التّحريم الرّمزيّ الإراديّ والتّحريم المادّيّ الذي لا يصبح رمزيّا إلاّ بمسرحة الرّضاع على نحو مخبّل، كما أسقطوا سجلّ النّظافة على سجلّ الطّهارة على نحو صادم لمشاعر المؤمنين أنفسهم.
كان يمكنهم إنتاج اجتهاد يقوم على التّأويل المجازيّ والقيميّ، بدل إنتاج فتاوى تقوم على الطّاعة العمياء للنّصوص في لفظها وفي الواقع الحسّيّ الذي أحالت عليه منذ قرون طويلة. التّأويل الذي يحيّن النّصوص على نحو إبداعيّ ويستنطق صمتها هو الذي يمكن أن ينسجم مع العصر ومع طموحات البشر في أن يكونوا بشرا وذواتا. فالاجتهاد الذي فتحوا بابه هو اجتهاد بدون تأويل، وانعدام التّأويل أو العجز عنه هو أحد دواعي الاعتلال الفرديّ والجماعيّ، بل إنّ بعضهم يعتبره مرادفا للذُّهان، وهو الاعتلال النّفسيّ الحقيقيّ النّاجم عن انعدام البعد الرّمزيّ. فالاجتهاد الذي يمارسه هؤلاء الشّيوخ في فتاواهم متعفّن ومعتلّ لأنّه لا يريد أن يغامر بالتّأويل، ويريد الواقعيّ بدل الرّمزيّ، ويغرق في الإفرازات البشريّة بدل إنتاج الدّلالة والقيمة الأخلاقيّة والرّمزيّة.
وكما اعتذر صاحب فتوى رضاع الكبير، اعتذر صاحب فتوى إفرازات الرّسول أمام أعضاء مجمع البحوث الإسلاميّة. بل وطالبه المجمع بسحب كتابه الذي احتوى على هذه الفتوى من الأسواق (كتاب "فتاوى معبّرة"). وبعبارة أخرى، مارست مؤسّسة الأزهر وظيفتها الأساسيّة المتمثّلة في المصادرة، وهي أكثر آليّات الدّفاع بدائيّة. ولكنّها في هذه المرّة صادرت نفسها بنفسها. في هذه المرّة لم تصادر شيخا مارقا أو حاملا لفكر مختلف كما فعلت في السّابق مع علي عبد الرّازق، وكما تفعل اليوم مع كثيرين من المطرودين والممنوعين، بل صادرت أولياء أمرها ومن هم في أعلى مرتبيّتها.
والأمر يدعو إلى التّدبّر والتّفكير، فلأوّل مرّة ينكشف لنا المشهد الفقهيّ عن مجتهدين يتخبّطون ويخطئون إلى هذا الحدّ، ولا يفعلون ما يريدون، ولا يريدون ما فعلوا. وكلّ ذلك يعود إلى أنّهم يجتهدون دون أن يجتهدوا ودون أن يؤوّلوا.
ولكنّ ما نراه من ردود فعل صنّاع القرار الدّينيّ وحماة ثوابت الأمّة والحريصين على عدم فكّ الارتباط بين الإسلام والفقه، لا تدلّ على تفكير ولا تدبّر، ولا عن بحث عن الحلول الجذريّة لهذا المأزق، بل على محاولات ترميم للجسد المتعفّن، ومحاولات دفاع عن "الصّنعة الجليلة"، صنعة الإفتاء، بالدّعوة إلى نبذ الفتاوى "الشّاذّة"، وإلى ضرورة توفّر شروط الإفتاء، وبالمطالبة بمأسسة الإفتاء وتنظيمه.
وما أنتجه الاجتهاد المتعفّن في الحالتين هو ما لا يحتمل، وما يدعو العاقل إلى التّأفّف، وما يبعث على القرف الذي عبّر عنه المئات من الكتّاب والمعلّقين، رجالا ونساء، مؤمنين وغير مؤمنين.
إنّه الواقعيّ عندما يغزو الحياة في عرائه، وعندما لا يتكفّل الرّمزيّ بإنتاج مسافة ولغة مجازيّة تعبّران عنه وتترجمانه داخل اللّغة نفسها. كان يمكن مثلا أن يصدر شيوخ الإسلام فتوى تعتبر الزّميلة امرأة "محرّمة" على نحو ما، وكان يمكن أن ينطلقوا من النّصوص الدّينيّة ومن اللّغة لتأويل "محرّمة" على أنّها "محترمة" في كيانها وإرادتها، دون أن يمرّ هذا الاعتبار بفعل الرّضاعة وبالالتقام المادّيّ للثّدي. وكان يمكن الاستغناء عن ذكر تفاصيل التّبرّك ببول الرّسول وإفرازاته الأخرى، باعتبار طهارته غير مادّيّة بل رمزيّة. فالطّهارة مبدأ رمزيّ مختلف عن النّظافة، والتّمييز بين النّظافة والطّهارة من المبادئ المعروفة في الأنتروبولوجيا والأتنولوجيا، وتحديدا في مبحثهما عن الطّقوس الدّينيّة، وهو مبحث يعتمد ثنائيّتة الطّهارة والنّجاسة، بدلا عن ثنائيّة النّظافة والقذارة. خلط هؤلاء الشّيوخ بين التّحريم الرّمزيّ الإراديّ والتّحريم المادّيّ الذي لا يصبح رمزيّا إلاّ بمسرحة الرّضاع على نحو مخبّل، كما أسقطوا سجلّ النّظافة على سجلّ الطّهارة على نحو صادم لمشاعر المؤمنين أنفسهم.
كان يمكنهم إنتاج اجتهاد يقوم على التّأويل المجازيّ والقيميّ، بدل إنتاج فتاوى تقوم على الطّاعة العمياء للنّصوص في لفظها وفي الواقع الحسّيّ الذي أحالت عليه منذ قرون طويلة. التّأويل الذي يحيّن النّصوص على نحو إبداعيّ ويستنطق صمتها هو الذي يمكن أن ينسجم مع العصر ومع طموحات البشر في أن يكونوا بشرا وذواتا. فالاجتهاد الذي فتحوا بابه هو اجتهاد بدون تأويل، وانعدام التّأويل أو العجز عنه هو أحد دواعي الاعتلال الفرديّ والجماعيّ، بل إنّ بعضهم يعتبره مرادفا للذُّهان، وهو الاعتلال النّفسيّ الحقيقيّ النّاجم عن انعدام البعد الرّمزيّ. فالاجتهاد الذي يمارسه هؤلاء الشّيوخ في فتاواهم متعفّن ومعتلّ لأنّه لا يريد أن يغامر بالتّأويل، ويريد الواقعيّ بدل الرّمزيّ، ويغرق في الإفرازات البشريّة بدل إنتاج الدّلالة والقيمة الأخلاقيّة والرّمزيّة.
وكما اعتذر صاحب فتوى رضاع الكبير، اعتذر صاحب فتوى إفرازات الرّسول أمام أعضاء مجمع البحوث الإسلاميّة. بل وطالبه المجمع بسحب كتابه الذي احتوى على هذه الفتوى من الأسواق (كتاب "فتاوى معبّرة"). وبعبارة أخرى، مارست مؤسّسة الأزهر وظيفتها الأساسيّة المتمثّلة في المصادرة، وهي أكثر آليّات الدّفاع بدائيّة. ولكنّها في هذه المرّة صادرت نفسها بنفسها. في هذه المرّة لم تصادر شيخا مارقا أو حاملا لفكر مختلف كما فعلت في السّابق مع علي عبد الرّازق، وكما تفعل اليوم مع كثيرين من المطرودين والممنوعين، بل صادرت أولياء أمرها ومن هم في أعلى مرتبيّتها.
والأمر يدعو إلى التّدبّر والتّفكير، فلأوّل مرّة ينكشف لنا المشهد الفقهيّ عن مجتهدين يتخبّطون ويخطئون إلى هذا الحدّ، ولا يفعلون ما يريدون، ولا يريدون ما فعلوا. وكلّ ذلك يعود إلى أنّهم يجتهدون دون أن يجتهدوا ودون أن يؤوّلوا.
ولكنّ ما نراه من ردود فعل صنّاع القرار الدّينيّ وحماة ثوابت الأمّة والحريصين على عدم فكّ الارتباط بين الإسلام والفقه، لا تدلّ على تفكير ولا تدبّر، ولا عن بحث عن الحلول الجذريّة لهذا المأزق، بل على محاولات ترميم للجسد المتعفّن، ومحاولات دفاع عن "الصّنعة الجليلة"، صنعة الإفتاء، بالدّعوة إلى نبذ الفتاوى "الشّاذّة"، وإلى ضرورة توفّر شروط الإفتاء، وبالمطالبة بمأسسة الإفتاء وتنظيمه.
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire