في سنة 2002 لم تمنعنا رقابة النظام البائد من الاحتفال بعشرينية صالح القرمادي. نرجو أن تخصّص التلفزة الوطنية برامج لمثل هؤلاء المثقفين الذين كانت لهم بصمة خاصة في كل شيء، وتم تهميشهم لأنهم كانوا مستقلين ولأنهم كانوا مجدّدين. تذكرته منذ بضعة
أيام عندما رأيت صورته معلّقة في قاعة المحاضرات بكلية منوبة. وهذا نص مشاركتي في عشرينيته
طيف لن يتحوّل إلى صنم
رجاء بن سلامة
صالح القرمادي، عالم "الألسنيّة" والشّاعر والقصّاص، والمترجم نفسه والآخرين، والمناضل اليساريّ أيضا. أحد مؤسّسي ومُصدري مجلّة "التّجديد" التي كان لها عمر الفراشات (صدر منها 11 عددا من فيفري 1961 إلى نوفمبر 1962). كان محبّا للنّزهة، فمات في أثناء نزهة جبليّة، وهو في الأوج من الحياة. وإلى اليوم تقرأ لوعة موته المفاجئ على وجوه أحباّئه ورفاقه وفي بريق أعينهم إذا تحدّثوا عنه.
نعي إلينا سنة 1982 ونحن في أوّل عهدنا بالدّراسة الجامعيّة، فلم يكن أستاذا لنا، ولازمنا شعور غامض بأنّه اُفتكّ منّا، أو بأنّنا وصلنا متأخّرين عن أشياء كثيرة. ربّما يكون الأموات، بل والأحياء أيضا على نوعين : أموات وأحياء ننوء تحت عبئهم، يلاحقوننا بظلالهم الأبويّة، ويمسكون بتلابيبنا، وآخرون نلاحق بكلّ شغف أطيافهم الفراشيّة. وربّما يكون القرمادي أحد الأطياف التي نلاحقها ولا نمسك بها. الحرّيّة هي الكلمة التي تنطق بها صورته الضّاحكة المتمرّدة على غلاف "اللّحمة الحيّة"، أولى مجموعاته الشّعريّة (وفيها قصائد بالعربيّة وأخرى بالفرنسيّة، صدرت طبعتها الأولى بتونس سنة 1970). والحرّيّة مفتاح هذه المجموعة، ومفتتحها أيضا بما أنّ القرمادي يستهلّها بمقطوعة لبول إيلوار يترجمها ثمّ يشفعها بمقطوعة يهديها إليه. يقول ألوار :
"إن كان بإسبانيا شجرة مصبوغة دما
فهي شجرة الحرّيّة"
ويقول القرمادي مجيبا أو مترجما على نحو من الأنحاء :
"إن كان في القفص بلبل نوّاح
فجميع بلابل الدّنيا في خطر"
بعد هذا الاستهلال ستتكرّر صورة القفص، وستتنوّع الأقفاص التي سيشير إليها تنوّع الحرّيّة التي يصدح بها. إلاّ أنّ الحرّيّة في أبعادها المختلفة لم تكن موضوعا من المواضيع أو شعارا من الشّعارات، بل كانت ممارسة كتابيّة وفكريّة مستمرّة، أو قفزا مستمرّا خارج الأقفاص. نفضّل أن نعدّد ملامح هذه الرّياضة المختلفة، انطلاقا من "اللّحمة الحيّة" خاصّة، على أن نقدّم تحليلا دلاليّا أو شكليّا يدّعي الاستيفاء أو الاستيعاب :
1/ لا حرّيّة دون سُكر بالمتنوّع والمختلف والسّائر في اتّجاهات عدّة. فالسّائد في الثّقافة العربيّة إلى اليوم هو التّفكير الصّراعيّ أو الحصريّ الذي يعتبر الأشياء المختلفة بدائل يلغي كلّ منها الآخر، فإمّا كذا أو كذا، إمّا أن تكون مناصرا أو عدوّا. نحوّل الاختلاف إلى صراع، ولا نفكّر في اختلاف الواحد ذاته عن نفسه، بحيث يكون هذا وذاك، أو يكون لا هذا ولا ذاك، بما أنّ حصيلة الأشياء المختلفة ليست مجرّد مجموع لها، بل هي أمر مختلف عن المجموع.
ويمكن أن نتّخذ المسألة اللّغويّة مثالا على هذا التّعدّد. ففي السّتّينات وأوائل السّبعينات، لم تتولّ وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة بعد تذليل الهوّة الفاصلة بين الفصحى والعامّيّات العربيّة المختلفة، وكان الجدل حول هذه القضيّة على أشدّه. من ذلك أنّ يوسف الخال أعلن سنة 1964 عن توقّف مجلّة "شعر" التي كان رئيسا لتحريرها، وأعلن في الوقت نفسه اصطدام حركته بـ"جدار اللّغة" : يقول في بيان مشهور : "وهكذا اصطدمت الحركة بجدار اللّغة، فإمّا أن تخترقه أو تقع صريعة أمامه، شأن كلّ المحاولات الشّعريّة التّجديديّة، بما في ذلك التّوشيح الأندلسيّ. وجدار اللّغة هذا هو كونها تكتب ولا تحكى، ممّا جعل الأدب (وخصوصا الشّعر، لأنّه ألصق فنونه باللّغة) أدبا أكاديميّا ضعيف الصّلة بالحياة حولنا." (شعر، السّنة 8، عدد 31-32، ص 8).
ليست غايتنا إدانة يوسف الخال ولا محاكمته، فما أسرع الأقلام اليوم إلى ذمّ جماعة "شعر" وكلّ من كانت لهم تطلّعات تحديثيّة. إنّما نقدّم صمته واصطدامه بجدار اللّغة مثالا دالاّ على أزمة لغويّة عاشها الكثير من المثقّفين العرب، وعلى يأس أدّى ببعضهم إلى الصّمت أو إلى تفضيل لغة على أخرى. ولنعد إلى القرمادي، فقد شعر كغيره بالهوّة الفاصلة بين العامّيّة والفصحى، وأضفى عليها بعدا طبقيّا اجتماعيّا، منطلقا من ازدواج وضعيّته هو، فهو ابن من أبناء الطبقات الشّعبيّة الكادحة، ولكنّه قد أصبح من النّخبة المثقّفة بحكم تعلّمه في المدارس والجامعات الرّاقية. ففي مقال له صدر سنة 1974 بصحيفة لومند الفرنسيّة تساءل عن حال لسان "الشّاعر أو الكاتب التّقدّميّ والثّلاثيّ اللّغة"، أي المتردّد بين الفصحى والعامّيّة والفرنسيّة والمتكزّق بين "ميله المشروع إلى أن يقول ذاته في نطاق طبقته الجديدة ورغبته في أن يتواصل مع أكبر عدد ممكن...". إلاّ أنّه أبى أن يكون من أنصار هذه اللّغة أو تلك. فقد ظلّ يكتب أبحاثه بالفرنسيّة والعربيّة، ودعا باعتباره لسانيّا، إلى التّقريب بين مستويات العربيّة، ودعا باعتباره مبدعا إلى الإلقاء بالكلمات مهما يكن مأتاها. اختار "التّعدّد اللّغوي"ّ والانتقال بين المستويات المختلفة للّغة الواحدة نهجا في التّأليف وفي الكتابة الإبداعيّة، واختار هذا التّعدّد في مستوى المعجم والتّركيب وفي مستوى النّص. يقول في المقال نفسه : "... فيما تعلّق بالإبداعات الأدبيّة، أعتقد أنّ الاستعمال المتزامن أو المتداول لثلاث لغات مهما تباعدت هذه اللّغات ثقافيّا، يمكن أن يجعلنا نكتشف صورا وإذن فأفكارا جديدة، ألعاب حبّ وقتل، ظلّ وضوء..."
لا صمت إذن ولا انتصار إلى لغة دون أخرى، بل حرّيّة لغويّة جعلت القرمادي يدخل العامّيّة والفرنسيّة في الفصحى والعربيّة في الفرنسيّة غير مستنكف ممّا قد يعدّه غيره تخليطا وضعفا لغويّا. أو لنقل، مستعيدين صورة يوسف الخال، إنّه آثر الانتقال والقفز المرح بين ضفّتي الجدار، أو آثر نوعا من تحطيم الجدار. ولهذا التّعدّد اللّغويّ صلة بالهزل، موضوع النّقطة الموالية.
2/ لم يعتمد القرمادي الخطابة التّقليديّة أو الخطابة الملتزمة، بل الهزل. وليس الهزل فنّ إضحاك فحسب، بل هو بعث للشّكّ وتساؤل، ومسافة يتّخذها الهازل من الأشياء ومن نفسه. والهزل أيضا فكاهة، والفكاهة فاكهة، أي ثمرة ناتجة عن غلبة مبدإ اللّذّة على مبدإ الواقع. من الواقع الرّديء يستمدّ المتفكّه لذّة وقدرة على إحداث هذا الاضطراب المحمود الذي يسمّى ضحكا. من الأشواك يستخرج فاكهة بربريّة.
وأوّل ما يسخر منه القرمادي الشّعر ذاته. إنّه يستعير من الشّعر أحيانا قافيته، ويحوّله إلى نثر مسجوع : ليس شعرا ولا قصيدة نثر ولا في غير العموديّ ولا الحرّ بل ربّما يكون أشبه شيء بفنّ المقامة السّاخرة، لا سيّما أنّ له نصاّ يحمل عنوان "المقامة القلميّة". إنّه شعر "لا يغتسل بإبريق" كما قال الأستاذ توفيق بكّار في تقديمه الجيّد للمجموعة، مستعيدا عبارة للمؤلّف. لا يغتسل بإبريق، بل يلوي عنق الإبريق، إبريق البلاغات القديمة، ولا يبالي ببريق البلاغات الحديثة القديمة كالأسطورة والصّور الصّوفيّة. وأهمّ البلاغات القديمة التي سخر منها الغزل، فهو يقول في "حبّ" :
"الحبّ الذي أحبّك به
حبّ حبيب
حبّ يكره من شبّه الحبّ باللّهيب..." أو يقول :
حبّ عرق ليس بفوّاح
حبّ أسنانه ليست كغرّ الأقاحي
حبّ ليس له حسب
ولا نسب..."
وثاني ما يسخر منه القرمادي مؤسّسات قمع الفرد عموما، أقفاصه. وأوّل هذه الأقفاص : "قفص الاتّهام". ففي أحد نصوصه ترد القصّة الموالية :
"يحكى أنّ تفّاحة من التّفّاح
باضت ذات صباح
فإذا الدّنيا تعجّ بالنّباح
وإذا التّفّاحة في قفص الاتّهام
تبكي تصيح في الحكّام
ألا ليت الدّجاج يعود يوما
فأخبره بما فعل المبيض!"
إنّ نظام الفوارق والاختلاف هو من الهيمنة بحيث لا يسمح للثّمرة بالتّحوّل إلى حيوان مخصب. تحوّل المصير واختيار المصير شبهة، المصير في حدّ ذاته ممنوع. ولا تخلو المقطوعة من هزء بشعر الحنين وبالحنين إلى الشّعر.
وثاني الأقفاص قفص المدينة الكبير. فالهزل سلاح المثقّف أحيانا ضدّ البلادة المعمّمة التي يصفها القرمادي عندما يتحدّث (بالفرنسيّة) عن "آكلي المثلّجات في المدن النّازيّة"، أو عندما يقدّم مشاهد من اليوميّ : يقول في "نزهة" :
"الطّريق قفص حديد
في حديقتهم العموميّة
بين مشانق النّور
وأزهارهم عفاريت
والأشجار قطّاع طريق
والمتنزّهون جماد
أعمدة كهربائيّة
فوانيسها في الطّين
وعروقها مصلوبة
تستعطف
والمياه فائرة في السّماء
فوران الغرائز المكبوتة
والمقاعد تئنّ تحت أعجاز النّساء
أنين المادّة المقهورة
وسائر النّاس زرق
كزرقة الصّبر الجائف
وريقهم لدن عقيم
كريق رئة البحر الجافّة
على شواطئ صيف إفريقيا."
استطراد
الأقفاص المجازيّة قد تنقلنا إلى الأقفاص الواقعيّة. أعني الأقفاص التي أصبحت من المنتوجات التّقليديّة التي نصدّرها إلى الخارج، وأصبحت صورتها رمزا لتونس. انظروا إشهاراتنا السّياحيّة، فستجدون في ركن من أركانها قفصا أزرق أبيض، نسمّيه قفص "سيدي بو سعيد". وانظروا قوافل السّوّاح العائدين من شواطئنا فسترون بعضهم متأبّطا قفصا من أقفاص بلادنا.
فلماذا راجت تجارة الأقفاص، لا سيّما الأقفاص التّزيينيّة غير الوظائفيّة؟ ألم يعد القفص رمزا للحرّيّة المسلوبة؟ هل أخضع القفص إلى عمليّة "تجميل" أفرغت صورته من محتواها السّياسيّ؟ أم هل نسينا الحرّيّة؟ أم هل هو دافع التّكرار الأعمى الذي يجعل السّجين يعيد إنتاج سجنه من حيث لا يشعر؟ ولماذا شاءت الصّدفة أن ينتسب القفص التّونسيّ الأبيض الأزرق إلى سيدي بو سعيد، الضّاحية الجميلة المفتوحة على البحر والسّماء، والتي أحبّها القرماديّ وأقام فيها؟
ولم يقع القرمادي في قفص الالتزام، أو في قفص الالتزام السّياسيّ الضّيّق، بل سخر من كلّ كلّ المؤسّسات التي تدجّن الفرد، فينساق إليها كرها أو طواعية :
*سخر من الإعلام ولغته الخشبيّة في قصيدة يتحدّث فيها عن البلاد محاكيا خطاب النّشرة الجوّيّة مسجّلا مثلا أنّ :
"الضّمير في أنين
من اليسار إلى اليمين
حسب إرادة المذيعين
ودرجة البلادة في ارتفاع
سجّلت في عقر الصّدور فكانت
لا تعدّ ولا تطاق..."
*سخر من الأستاذ الذي يخرج العلم من محفظته بكلّ ثقة في النّفس :
"مدّ الأستاذ يده الكريمة
يختطف العلم من المحفظة
فأخرج دويبة تتململ
وألقى بها على تلاميذه صائحا
أمّ أربع وأربعين... "
تحدث المفاجأة الأولى عندما تأخذ الدّويبة في رقص "الدّجارك"، وتسقط مغشيّا عليها، وتحدث المفاجأة الثّانية عندما يعدّ التّلاميذ أرجلها فيجدونها أربعين فقط، فيثورون على الأستاذ ويخنقونه. يقتل التّلاميذ الأب الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، ويعوّضون سلطته بما تفيده التّجربة شبه العلميّة المشتركة. ولكنّ هذا التّأويل الأوديبيّ لا يستوفي جميع أبعاد القطعة، ويترك أمر المشهد العجائبيّ الذي ترقص فيه الدّويبة رقصة الدّجارك. فهل ينقلب وضع هذه "الدّويبة" من حشرة هي موضوع ملاحظة ودرس إلى ذات راقصة، وهل يكون هذا الانقلاب احتجاجا على المركزيّة البشريّة التي تجعل الكائنات غير البشريّة مسخّرة للبشر؟ أم تمثّل "أمّ أربع وأربعين" الأمّ التي أفرطت في لزوم موقع الأمّ، ثمّ استعادت بالرّقص أنوثتها المكتومة؟
وقد ينتج الهزل عن العمل ضدّ الذّاكرة وضدّ توقّعات المتقبّل. كأن يقوم القرمادي بعمليّة تحويل تنقلنا من سجلّ تراثيّ إلى آخر حديث. ففي "الأمل" ننتقل من عالم "عام الفيل والطّير الأبابيل" إلى عالم السّرك الذي يأمل النّاس أن يمرّ "فيقتني الفيل." وفي "سوربريز-برتي في قبري" تنقلب أهوال القبر وعذابه الذي قد يستحضره القارئ إلى عالم من المتع التي لا تكاد توصف.
3/ لئن كان شعر القرمادي سخرية من الشّعر، فإنّه كذلك في جزء منه على الأقلّ أو في بعد من أبعاده شعر يقاوم رغبة القارئ في حصره في معنى أو في تأويل رمزيّ يستوفي جميع أبعاده، رغم أنّ قصائده التي تمثّل مقاطع سرديّة قصيرة قد توهم بالسّهولة ويإمكانيّة التّأويل المتيسّر. رأينا ذلك بخصوص مشهد رقص أمّ أربع وأربعين. ويمكن أن نجد منطقة لامتقرّر في كلّ من قصائده التي قد تبدو واضحة. فللشّاعر، أيّ شاعر، موعد مع الجنون والمحال :
"إنّ لي مع المجانين وعدا
وجدالا
وكلاما
قد يبدو لكم محالا" ومن مظاهر هذا المحال التباس النّفي بالإثبات أو تساويهما كما في قصيدة "بـ أو بلا" التي كتبت بالفرنسيّة. ومن مظاهره أيضا ما لا يمكن فهمه من أمر الواقعيّ، ومنه التباس المتعة بالموت واشتباه أحوال الذّات :
"قبري
قبري صقيل اللّحود شفّاف الكفن
آتيه في أبعاد اللّذّة الجسديّة
لا بل في أقرابها
...
الفرس يجري ملتهبا
وأنا على صهوته أغنّي
لا بل أبكي
لا بل أغنّي
وهي تلاحقنا نصف عذراء
نصف عارية..."
وتصل مقاومته المعنى إلى حدّ الإمعان في اللاّمبالاة بقواعد التّركيب والإملاء. وعندها لا بدّ أن نعدل عن الفهم وأن ننصت فحسب، كما في قصيدة "صرير" التي كتبها بالفرنسيّة، وملأها بالفراغات النّحويّة والأخطاء المتعمّدة. لا يمكن لنا ترجمة هذه القصيدة، ولا يسعنا إلاّ أن نقرأها منصتين إلى صرير عظام اللّغة الفرنسيّة أو طقطقتها، وهو ما فهمته من عنوانها، وما اكتفيت به بكلّ قنوع.
4/ لا حرّيّة دون خلاص من ربقة المثاليّات التي تنتج أساطير ومؤسّسات لما يمكن أن نسمّيه بـ"قهر المادّة" استلهاما للصّورة الواردة في قصيدة "النّزهة". فالقرماديّ يفتح مجال الحسّيّ المغرق في الحسّيّة وينتقد، بطريقته الخاصّة، التّجريد الذي تنبني عليه تقاليد النّفاق الأخلاقي، والذي يقوم على إخلاء الحبّ من التّوق الجسديّ. وإلى هذا يمكن أن نردّ عنوان "اللّحمة الحيّة". فاللّحمة الحيّة ليست الجثّة الجامدة، وليست الرّوح النّورانيّة، بل هي الجسد، وقد نزعت عنه حجب مئات السّنين من التّمويه والتّأثّم.
وقد كان سبيل القرمادي إلى الإعلاء من المحسوس رفض بعض الصّور القديمة كما رأينا، وكان سبيله أيضا تلك العلاقة الغريبة التي يقيمها بين الأكل والعشق. لقد عنّ له أن يقول هذا القول الذي اشتهر وأصبح إعلانا عن الحبّ من نوع جديد :
" الحبّ الذي أحبّك به...
حبّ طريّ شهيّ
ككتف العلّوش على الكسكسيّ..."
وعنّ له أن يقول في النّصّ نفسه :
... حبّ يأكل النّعجة ويتسحّر بالذّيب
حبّ ثور ثائر مجنون
حبّ لا مبارك ولا ميمون
حبّ يحبّ طعم خبز الشّعير
بزيت الزّيتون..."
وفي القسم الفرنسيّ يضع عنوان "ملموسات" أو "لمسيّات" لنصّ يبتدئ هكذا :
"لا تلمسوني أبدا إلاّ بأياد حيّة
سأحني رقبتي
سأشعل الرّوح في شعـِركِ المجنون
وأخرُج وأخـِرج لساني
في وجه قانصيّ
السّيجارة ستقتل الذّبابة
والذّبابة ستقتل السّيجارة."
وليست هذه الحسّيّة ابتذالا للحبّ أو للحبيب، فالقرمادي ممّن صوّر إفلات الحبيب أو ما أمكن لنا التّعبير عنه بـ"الإخطاء"، ونعني به تقاطع مصائر المتعاشقين، بحيث أنّهما إذا التقيا أو أوشكا على الالتقاء افترقا. يقول في مجموعته الثّانية "أجدادي البدو"، وهي بالفرنسيّة، في قصيدة عنوانها "حبّ الحضور حبّ الغياب"، فيما يشبه الحلم أو الهذيان، في أثناء جملة طويلة هادرة نحاول ترجمتها دون عقلنتها ودون إدخال تنقيط عليها : "تراءيتِ لي في الطّريق فجأة في منعطف شعور على الرّصيف الخالي كنت لا تسيرين بسرعة لأنّك بانتظار شخص كان هناك قبالتك ولكنّك لا تستطيعين رؤيته ولا لمسه ولا سرقته ولا حمله وكنت أنا أصيح بكلّ قوايا السُّرّيّة أنّ هذا الشّخص هو أنا ولكنّك عمياء أو عُمّي عليك وعندها مرّ التّرولّبيس الذي فيه قابض أحمق أشنب يشبه ستالين ومحاك في منتصف اللّيل عندما يدعو اليوم المقتول إلى التّرك، إلى ..."
التي كانت تبحث عن الرّائي لم تكن تراه، والرّائي الذي كان يراها لم يكن بوسعه المسك بها. هذا ما يصنعه العشق بالنّاس : إذا أعطى الحركة سلب البصر، وإذا منح البصر سلب الحركة، بحيث تسقط حركة هذا دون نظرة ذاك، وتبقى نظرة ذاك بلا حركة. ذلك هو "قفص" الحب (انظر قصيدته "حبّ" في "اللّحمة الحيّة")، القفص الأوحد الذي يقبل المتكلّم دخوله طوعا وحبّا.
وربّما تكون حسّيّة القرمادي الرّافضة للتّمويه الأخلاقيّ مرتبطة بنقده للمثاليّة كما يتجلّى في الدّراسة التي كتبها عن الفيلسوف ابن رشد، والتي نشرها في مجلّة "التّجديد" على حلقتين. فبين نصوص القرمادي الإبداعيّة وتنظيراته اللّسانيةّ، وما كتبه عن الاشتراكيّة أو عن نقد المثاليّة يوجد خيط رابط يعود إلى أنّ الرّجل لم يكن مبدعا فحسب، بل كان له وعي نظريّ فلسفي، وكانت له أحلام تحرّريّة وقيميّة منها يتوزعّ تفكيره وشعره في نفس الوقت.
5/ عندما تكون قصيدة القرمادي وصيّة أو شبه وصيّة، فإنّه يطارد حرّيّته إلى ما بعد الموت فيطالب بحقّه في أن يموت كما يريد. طقوس الجنازة لا يريدها. فلماذا نفرض جنازة واحدة على كلّ الموتى؟ يقول في "نصائح إلى أهلي بعد موتي" :
"إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرأوا عليّ الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض..."
خاتمة غنائيّة، لا موجب لها؟
اليوم إذ نسي الحرّيّة الكثير من المثقّفين أو من مدّعي الثّقافة، بل وأمعنوا في تنظيم نسيانها عن غفلة منهم أم وعي، ومدّت ثقافة الجوائز أصابعها المستشرية إلى "النّخبة" العربيّة، وأخذت تحشر المثقّفين في أقفاص المكافآت والحسابات والتّكتّلات، وظهرت إلى الوجود كائنات ثقافيّة فظيعة ومشاهد ثقافيّة كاريكاتورية، ومؤسّسات لصناعة الأكاذيب الثّقافيّة وترويجها، تأتينا صورة القرمادي بنفحة من الهواء النّقيّ.
وسيظلّ القرمادي طيف حرّيّة. إلى اليوم لم تنشر بعض مؤلّفاته. ولم يتحوّل هو إلى رمز من رموز الثّقافة الرّسميّة، أو صورة من صورها الأبويّة الكابوسيّة. لأنّ سخريّته لاذعة ودعوته إلى الحرّيّة والتّعدّد لا يمكن أن تنصهر ضمن أيّ من إيديولوجيّات الوفاق والوحدانيّة، ولأنّ شعره لا يبالي بصناعة الشّعر. لن تحوّله "صناعة الأموات " إلى صنم من أصنام "بنتيون" الأمّة.
أمّا اللّحمة الحيّة وغيرها من مؤلّفاته التي تقطر إلى اليوم ماء حياة وينبعث منها الهزل السّاخر من كلّ اللّغات الخشبيّة، فقد أفلتت من يد الرّقابة الوطنيّة والعربيّة، ولن تفتكّها يد التّفتيش التي استيقظت في شتّى أنحاء العالم العربيّ مطالبة كلّ يوم بأكباش الفداء، منتقمة لـ"ثوابت" تجمّدت من فرط ثباتها، ولـ"مقدّسات" اهترأت من فرط التّشبّث بها.
:
أيام عندما رأيت صورته معلّقة في قاعة المحاضرات بكلية منوبة. وهذا نص مشاركتي في عشرينيته
طيف لن يتحوّل إلى صنم
رجاء بن سلامة
صالح القرمادي، عالم "الألسنيّة" والشّاعر والقصّاص، والمترجم نفسه والآخرين، والمناضل اليساريّ أيضا. أحد مؤسّسي ومُصدري مجلّة "التّجديد" التي كان لها عمر الفراشات (صدر منها 11 عددا من فيفري 1961 إلى نوفمبر 1962). كان محبّا للنّزهة، فمات في أثناء نزهة جبليّة، وهو في الأوج من الحياة. وإلى اليوم تقرأ لوعة موته المفاجئ على وجوه أحباّئه ورفاقه وفي بريق أعينهم إذا تحدّثوا عنه.
نعي إلينا سنة 1982 ونحن في أوّل عهدنا بالدّراسة الجامعيّة، فلم يكن أستاذا لنا، ولازمنا شعور غامض بأنّه اُفتكّ منّا، أو بأنّنا وصلنا متأخّرين عن أشياء كثيرة. ربّما يكون الأموات، بل والأحياء أيضا على نوعين : أموات وأحياء ننوء تحت عبئهم، يلاحقوننا بظلالهم الأبويّة، ويمسكون بتلابيبنا، وآخرون نلاحق بكلّ شغف أطيافهم الفراشيّة. وربّما يكون القرمادي أحد الأطياف التي نلاحقها ولا نمسك بها. الحرّيّة هي الكلمة التي تنطق بها صورته الضّاحكة المتمرّدة على غلاف "اللّحمة الحيّة"، أولى مجموعاته الشّعريّة (وفيها قصائد بالعربيّة وأخرى بالفرنسيّة، صدرت طبعتها الأولى بتونس سنة 1970). والحرّيّة مفتاح هذه المجموعة، ومفتتحها أيضا بما أنّ القرمادي يستهلّها بمقطوعة لبول إيلوار يترجمها ثمّ يشفعها بمقطوعة يهديها إليه. يقول ألوار :
"إن كان بإسبانيا شجرة مصبوغة دما
فهي شجرة الحرّيّة"
ويقول القرمادي مجيبا أو مترجما على نحو من الأنحاء :
"إن كان في القفص بلبل نوّاح
فجميع بلابل الدّنيا في خطر"
بعد هذا الاستهلال ستتكرّر صورة القفص، وستتنوّع الأقفاص التي سيشير إليها تنوّع الحرّيّة التي يصدح بها. إلاّ أنّ الحرّيّة في أبعادها المختلفة لم تكن موضوعا من المواضيع أو شعارا من الشّعارات، بل كانت ممارسة كتابيّة وفكريّة مستمرّة، أو قفزا مستمرّا خارج الأقفاص. نفضّل أن نعدّد ملامح هذه الرّياضة المختلفة، انطلاقا من "اللّحمة الحيّة" خاصّة، على أن نقدّم تحليلا دلاليّا أو شكليّا يدّعي الاستيفاء أو الاستيعاب :
1/ لا حرّيّة دون سُكر بالمتنوّع والمختلف والسّائر في اتّجاهات عدّة. فالسّائد في الثّقافة العربيّة إلى اليوم هو التّفكير الصّراعيّ أو الحصريّ الذي يعتبر الأشياء المختلفة بدائل يلغي كلّ منها الآخر، فإمّا كذا أو كذا، إمّا أن تكون مناصرا أو عدوّا. نحوّل الاختلاف إلى صراع، ولا نفكّر في اختلاف الواحد ذاته عن نفسه، بحيث يكون هذا وذاك، أو يكون لا هذا ولا ذاك، بما أنّ حصيلة الأشياء المختلفة ليست مجرّد مجموع لها، بل هي أمر مختلف عن المجموع.
ويمكن أن نتّخذ المسألة اللّغويّة مثالا على هذا التّعدّد. ففي السّتّينات وأوائل السّبعينات، لم تتولّ وسائل الإعلام السّمعيّة والبصريّة بعد تذليل الهوّة الفاصلة بين الفصحى والعامّيّات العربيّة المختلفة، وكان الجدل حول هذه القضيّة على أشدّه. من ذلك أنّ يوسف الخال أعلن سنة 1964 عن توقّف مجلّة "شعر" التي كان رئيسا لتحريرها، وأعلن في الوقت نفسه اصطدام حركته بـ"جدار اللّغة" : يقول في بيان مشهور : "وهكذا اصطدمت الحركة بجدار اللّغة، فإمّا أن تخترقه أو تقع صريعة أمامه، شأن كلّ المحاولات الشّعريّة التّجديديّة، بما في ذلك التّوشيح الأندلسيّ. وجدار اللّغة هذا هو كونها تكتب ولا تحكى، ممّا جعل الأدب (وخصوصا الشّعر، لأنّه ألصق فنونه باللّغة) أدبا أكاديميّا ضعيف الصّلة بالحياة حولنا." (شعر، السّنة 8، عدد 31-32، ص 8).
ليست غايتنا إدانة يوسف الخال ولا محاكمته، فما أسرع الأقلام اليوم إلى ذمّ جماعة "شعر" وكلّ من كانت لهم تطلّعات تحديثيّة. إنّما نقدّم صمته واصطدامه بجدار اللّغة مثالا دالاّ على أزمة لغويّة عاشها الكثير من المثقّفين العرب، وعلى يأس أدّى ببعضهم إلى الصّمت أو إلى تفضيل لغة على أخرى. ولنعد إلى القرمادي، فقد شعر كغيره بالهوّة الفاصلة بين العامّيّة والفصحى، وأضفى عليها بعدا طبقيّا اجتماعيّا، منطلقا من ازدواج وضعيّته هو، فهو ابن من أبناء الطبقات الشّعبيّة الكادحة، ولكنّه قد أصبح من النّخبة المثقّفة بحكم تعلّمه في المدارس والجامعات الرّاقية. ففي مقال له صدر سنة 1974 بصحيفة لومند الفرنسيّة تساءل عن حال لسان "الشّاعر أو الكاتب التّقدّميّ والثّلاثيّ اللّغة"، أي المتردّد بين الفصحى والعامّيّة والفرنسيّة والمتكزّق بين "ميله المشروع إلى أن يقول ذاته في نطاق طبقته الجديدة ورغبته في أن يتواصل مع أكبر عدد ممكن...". إلاّ أنّه أبى أن يكون من أنصار هذه اللّغة أو تلك. فقد ظلّ يكتب أبحاثه بالفرنسيّة والعربيّة، ودعا باعتباره لسانيّا، إلى التّقريب بين مستويات العربيّة، ودعا باعتباره مبدعا إلى الإلقاء بالكلمات مهما يكن مأتاها. اختار "التّعدّد اللّغوي"ّ والانتقال بين المستويات المختلفة للّغة الواحدة نهجا في التّأليف وفي الكتابة الإبداعيّة، واختار هذا التّعدّد في مستوى المعجم والتّركيب وفي مستوى النّص. يقول في المقال نفسه : "... فيما تعلّق بالإبداعات الأدبيّة، أعتقد أنّ الاستعمال المتزامن أو المتداول لثلاث لغات مهما تباعدت هذه اللّغات ثقافيّا، يمكن أن يجعلنا نكتشف صورا وإذن فأفكارا جديدة، ألعاب حبّ وقتل، ظلّ وضوء..."
لا صمت إذن ولا انتصار إلى لغة دون أخرى، بل حرّيّة لغويّة جعلت القرمادي يدخل العامّيّة والفرنسيّة في الفصحى والعربيّة في الفرنسيّة غير مستنكف ممّا قد يعدّه غيره تخليطا وضعفا لغويّا. أو لنقل، مستعيدين صورة يوسف الخال، إنّه آثر الانتقال والقفز المرح بين ضفّتي الجدار، أو آثر نوعا من تحطيم الجدار. ولهذا التّعدّد اللّغويّ صلة بالهزل، موضوع النّقطة الموالية.
2/ لم يعتمد القرمادي الخطابة التّقليديّة أو الخطابة الملتزمة، بل الهزل. وليس الهزل فنّ إضحاك فحسب، بل هو بعث للشّكّ وتساؤل، ومسافة يتّخذها الهازل من الأشياء ومن نفسه. والهزل أيضا فكاهة، والفكاهة فاكهة، أي ثمرة ناتجة عن غلبة مبدإ اللّذّة على مبدإ الواقع. من الواقع الرّديء يستمدّ المتفكّه لذّة وقدرة على إحداث هذا الاضطراب المحمود الذي يسمّى ضحكا. من الأشواك يستخرج فاكهة بربريّة.
وأوّل ما يسخر منه القرمادي الشّعر ذاته. إنّه يستعير من الشّعر أحيانا قافيته، ويحوّله إلى نثر مسجوع : ليس شعرا ولا قصيدة نثر ولا في غير العموديّ ولا الحرّ بل ربّما يكون أشبه شيء بفنّ المقامة السّاخرة، لا سيّما أنّ له نصاّ يحمل عنوان "المقامة القلميّة". إنّه شعر "لا يغتسل بإبريق" كما قال الأستاذ توفيق بكّار في تقديمه الجيّد للمجموعة، مستعيدا عبارة للمؤلّف. لا يغتسل بإبريق، بل يلوي عنق الإبريق، إبريق البلاغات القديمة، ولا يبالي ببريق البلاغات الحديثة القديمة كالأسطورة والصّور الصّوفيّة. وأهمّ البلاغات القديمة التي سخر منها الغزل، فهو يقول في "حبّ" :
"الحبّ الذي أحبّك به
حبّ حبيب
حبّ يكره من شبّه الحبّ باللّهيب..." أو يقول :
حبّ عرق ليس بفوّاح
حبّ أسنانه ليست كغرّ الأقاحي
حبّ ليس له حسب
ولا نسب..."
وثاني ما يسخر منه القرمادي مؤسّسات قمع الفرد عموما، أقفاصه. وأوّل هذه الأقفاص : "قفص الاتّهام". ففي أحد نصوصه ترد القصّة الموالية :
"يحكى أنّ تفّاحة من التّفّاح
باضت ذات صباح
فإذا الدّنيا تعجّ بالنّباح
وإذا التّفّاحة في قفص الاتّهام
تبكي تصيح في الحكّام
ألا ليت الدّجاج يعود يوما
فأخبره بما فعل المبيض!"
إنّ نظام الفوارق والاختلاف هو من الهيمنة بحيث لا يسمح للثّمرة بالتّحوّل إلى حيوان مخصب. تحوّل المصير واختيار المصير شبهة، المصير في حدّ ذاته ممنوع. ولا تخلو المقطوعة من هزء بشعر الحنين وبالحنين إلى الشّعر.
وثاني الأقفاص قفص المدينة الكبير. فالهزل سلاح المثقّف أحيانا ضدّ البلادة المعمّمة التي يصفها القرمادي عندما يتحدّث (بالفرنسيّة) عن "آكلي المثلّجات في المدن النّازيّة"، أو عندما يقدّم مشاهد من اليوميّ : يقول في "نزهة" :
"الطّريق قفص حديد
في حديقتهم العموميّة
بين مشانق النّور
وأزهارهم عفاريت
والأشجار قطّاع طريق
والمتنزّهون جماد
أعمدة كهربائيّة
فوانيسها في الطّين
وعروقها مصلوبة
تستعطف
والمياه فائرة في السّماء
فوران الغرائز المكبوتة
والمقاعد تئنّ تحت أعجاز النّساء
أنين المادّة المقهورة
وسائر النّاس زرق
كزرقة الصّبر الجائف
وريقهم لدن عقيم
كريق رئة البحر الجافّة
على شواطئ صيف إفريقيا."
استطراد
الأقفاص المجازيّة قد تنقلنا إلى الأقفاص الواقعيّة. أعني الأقفاص التي أصبحت من المنتوجات التّقليديّة التي نصدّرها إلى الخارج، وأصبحت صورتها رمزا لتونس. انظروا إشهاراتنا السّياحيّة، فستجدون في ركن من أركانها قفصا أزرق أبيض، نسمّيه قفص "سيدي بو سعيد". وانظروا قوافل السّوّاح العائدين من شواطئنا فسترون بعضهم متأبّطا قفصا من أقفاص بلادنا.
فلماذا راجت تجارة الأقفاص، لا سيّما الأقفاص التّزيينيّة غير الوظائفيّة؟ ألم يعد القفص رمزا للحرّيّة المسلوبة؟ هل أخضع القفص إلى عمليّة "تجميل" أفرغت صورته من محتواها السّياسيّ؟ أم هل نسينا الحرّيّة؟ أم هل هو دافع التّكرار الأعمى الذي يجعل السّجين يعيد إنتاج سجنه من حيث لا يشعر؟ ولماذا شاءت الصّدفة أن ينتسب القفص التّونسيّ الأبيض الأزرق إلى سيدي بو سعيد، الضّاحية الجميلة المفتوحة على البحر والسّماء، والتي أحبّها القرماديّ وأقام فيها؟
ولم يقع القرمادي في قفص الالتزام، أو في قفص الالتزام السّياسيّ الضّيّق، بل سخر من كلّ كلّ المؤسّسات التي تدجّن الفرد، فينساق إليها كرها أو طواعية :
*سخر من الإعلام ولغته الخشبيّة في قصيدة يتحدّث فيها عن البلاد محاكيا خطاب النّشرة الجوّيّة مسجّلا مثلا أنّ :
"الضّمير في أنين
من اليسار إلى اليمين
حسب إرادة المذيعين
ودرجة البلادة في ارتفاع
سجّلت في عقر الصّدور فكانت
لا تعدّ ولا تطاق..."
*سخر من الأستاذ الذي يخرج العلم من محفظته بكلّ ثقة في النّفس :
"مدّ الأستاذ يده الكريمة
يختطف العلم من المحفظة
فأخرج دويبة تتململ
وألقى بها على تلاميذه صائحا
أمّ أربع وأربعين... "
تحدث المفاجأة الأولى عندما تأخذ الدّويبة في رقص "الدّجارك"، وتسقط مغشيّا عليها، وتحدث المفاجأة الثّانية عندما يعدّ التّلاميذ أرجلها فيجدونها أربعين فقط، فيثورون على الأستاذ ويخنقونه. يقتل التّلاميذ الأب الذي يدّعي امتلاك الحقيقة، ويعوّضون سلطته بما تفيده التّجربة شبه العلميّة المشتركة. ولكنّ هذا التّأويل الأوديبيّ لا يستوفي جميع أبعاد القطعة، ويترك أمر المشهد العجائبيّ الذي ترقص فيه الدّويبة رقصة الدّجارك. فهل ينقلب وضع هذه "الدّويبة" من حشرة هي موضوع ملاحظة ودرس إلى ذات راقصة، وهل يكون هذا الانقلاب احتجاجا على المركزيّة البشريّة التي تجعل الكائنات غير البشريّة مسخّرة للبشر؟ أم تمثّل "أمّ أربع وأربعين" الأمّ التي أفرطت في لزوم موقع الأمّ، ثمّ استعادت بالرّقص أنوثتها المكتومة؟
وقد ينتج الهزل عن العمل ضدّ الذّاكرة وضدّ توقّعات المتقبّل. كأن يقوم القرمادي بعمليّة تحويل تنقلنا من سجلّ تراثيّ إلى آخر حديث. ففي "الأمل" ننتقل من عالم "عام الفيل والطّير الأبابيل" إلى عالم السّرك الذي يأمل النّاس أن يمرّ "فيقتني الفيل." وفي "سوربريز-برتي في قبري" تنقلب أهوال القبر وعذابه الذي قد يستحضره القارئ إلى عالم من المتع التي لا تكاد توصف.
3/ لئن كان شعر القرمادي سخرية من الشّعر، فإنّه كذلك في جزء منه على الأقلّ أو في بعد من أبعاده شعر يقاوم رغبة القارئ في حصره في معنى أو في تأويل رمزيّ يستوفي جميع أبعاده، رغم أنّ قصائده التي تمثّل مقاطع سرديّة قصيرة قد توهم بالسّهولة ويإمكانيّة التّأويل المتيسّر. رأينا ذلك بخصوص مشهد رقص أمّ أربع وأربعين. ويمكن أن نجد منطقة لامتقرّر في كلّ من قصائده التي قد تبدو واضحة. فللشّاعر، أيّ شاعر، موعد مع الجنون والمحال :
"إنّ لي مع المجانين وعدا
وجدالا
وكلاما
قد يبدو لكم محالا" ومن مظاهر هذا المحال التباس النّفي بالإثبات أو تساويهما كما في قصيدة "بـ أو بلا" التي كتبت بالفرنسيّة. ومن مظاهره أيضا ما لا يمكن فهمه من أمر الواقعيّ، ومنه التباس المتعة بالموت واشتباه أحوال الذّات :
"قبري
قبري صقيل اللّحود شفّاف الكفن
آتيه في أبعاد اللّذّة الجسديّة
لا بل في أقرابها
...
الفرس يجري ملتهبا
وأنا على صهوته أغنّي
لا بل أبكي
لا بل أغنّي
وهي تلاحقنا نصف عذراء
نصف عارية..."
وتصل مقاومته المعنى إلى حدّ الإمعان في اللاّمبالاة بقواعد التّركيب والإملاء. وعندها لا بدّ أن نعدل عن الفهم وأن ننصت فحسب، كما في قصيدة "صرير" التي كتبها بالفرنسيّة، وملأها بالفراغات النّحويّة والأخطاء المتعمّدة. لا يمكن لنا ترجمة هذه القصيدة، ولا يسعنا إلاّ أن نقرأها منصتين إلى صرير عظام اللّغة الفرنسيّة أو طقطقتها، وهو ما فهمته من عنوانها، وما اكتفيت به بكلّ قنوع.
4/ لا حرّيّة دون خلاص من ربقة المثاليّات التي تنتج أساطير ومؤسّسات لما يمكن أن نسمّيه بـ"قهر المادّة" استلهاما للصّورة الواردة في قصيدة "النّزهة". فالقرماديّ يفتح مجال الحسّيّ المغرق في الحسّيّة وينتقد، بطريقته الخاصّة، التّجريد الذي تنبني عليه تقاليد النّفاق الأخلاقي، والذي يقوم على إخلاء الحبّ من التّوق الجسديّ. وإلى هذا يمكن أن نردّ عنوان "اللّحمة الحيّة". فاللّحمة الحيّة ليست الجثّة الجامدة، وليست الرّوح النّورانيّة، بل هي الجسد، وقد نزعت عنه حجب مئات السّنين من التّمويه والتّأثّم.
وقد كان سبيل القرمادي إلى الإعلاء من المحسوس رفض بعض الصّور القديمة كما رأينا، وكان سبيله أيضا تلك العلاقة الغريبة التي يقيمها بين الأكل والعشق. لقد عنّ له أن يقول هذا القول الذي اشتهر وأصبح إعلانا عن الحبّ من نوع جديد :
" الحبّ الذي أحبّك به...
حبّ طريّ شهيّ
ككتف العلّوش على الكسكسيّ..."
وعنّ له أن يقول في النّصّ نفسه :
... حبّ يأكل النّعجة ويتسحّر بالذّيب
حبّ ثور ثائر مجنون
حبّ لا مبارك ولا ميمون
حبّ يحبّ طعم خبز الشّعير
بزيت الزّيتون..."
وفي القسم الفرنسيّ يضع عنوان "ملموسات" أو "لمسيّات" لنصّ يبتدئ هكذا :
"لا تلمسوني أبدا إلاّ بأياد حيّة
سأحني رقبتي
سأشعل الرّوح في شعـِركِ المجنون
وأخرُج وأخـِرج لساني
في وجه قانصيّ
السّيجارة ستقتل الذّبابة
والذّبابة ستقتل السّيجارة."
وليست هذه الحسّيّة ابتذالا للحبّ أو للحبيب، فالقرمادي ممّن صوّر إفلات الحبيب أو ما أمكن لنا التّعبير عنه بـ"الإخطاء"، ونعني به تقاطع مصائر المتعاشقين، بحيث أنّهما إذا التقيا أو أوشكا على الالتقاء افترقا. يقول في مجموعته الثّانية "أجدادي البدو"، وهي بالفرنسيّة، في قصيدة عنوانها "حبّ الحضور حبّ الغياب"، فيما يشبه الحلم أو الهذيان، في أثناء جملة طويلة هادرة نحاول ترجمتها دون عقلنتها ودون إدخال تنقيط عليها : "تراءيتِ لي في الطّريق فجأة في منعطف شعور على الرّصيف الخالي كنت لا تسيرين بسرعة لأنّك بانتظار شخص كان هناك قبالتك ولكنّك لا تستطيعين رؤيته ولا لمسه ولا سرقته ولا حمله وكنت أنا أصيح بكلّ قوايا السُّرّيّة أنّ هذا الشّخص هو أنا ولكنّك عمياء أو عُمّي عليك وعندها مرّ التّرولّبيس الذي فيه قابض أحمق أشنب يشبه ستالين ومحاك في منتصف اللّيل عندما يدعو اليوم المقتول إلى التّرك، إلى ..."
التي كانت تبحث عن الرّائي لم تكن تراه، والرّائي الذي كان يراها لم يكن بوسعه المسك بها. هذا ما يصنعه العشق بالنّاس : إذا أعطى الحركة سلب البصر، وإذا منح البصر سلب الحركة، بحيث تسقط حركة هذا دون نظرة ذاك، وتبقى نظرة ذاك بلا حركة. ذلك هو "قفص" الحب (انظر قصيدته "حبّ" في "اللّحمة الحيّة")، القفص الأوحد الذي يقبل المتكلّم دخوله طوعا وحبّا.
وربّما تكون حسّيّة القرمادي الرّافضة للتّمويه الأخلاقيّ مرتبطة بنقده للمثاليّة كما يتجلّى في الدّراسة التي كتبها عن الفيلسوف ابن رشد، والتي نشرها في مجلّة "التّجديد" على حلقتين. فبين نصوص القرمادي الإبداعيّة وتنظيراته اللّسانيةّ، وما كتبه عن الاشتراكيّة أو عن نقد المثاليّة يوجد خيط رابط يعود إلى أنّ الرّجل لم يكن مبدعا فحسب، بل كان له وعي نظريّ فلسفي، وكانت له أحلام تحرّريّة وقيميّة منها يتوزعّ تفكيره وشعره في نفس الوقت.
5/ عندما تكون قصيدة القرمادي وصيّة أو شبه وصيّة، فإنّه يطارد حرّيّته إلى ما بعد الموت فيطالب بحقّه في أن يموت كما يريد. طقوس الجنازة لا يريدها. فلماذا نفرض جنازة واحدة على كلّ الموتى؟ يقول في "نصائح إلى أهلي بعد موتي" :
"إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرأوا عليّ الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض..."
خاتمة غنائيّة، لا موجب لها؟
اليوم إذ نسي الحرّيّة الكثير من المثقّفين أو من مدّعي الثّقافة، بل وأمعنوا في تنظيم نسيانها عن غفلة منهم أم وعي، ومدّت ثقافة الجوائز أصابعها المستشرية إلى "النّخبة" العربيّة، وأخذت تحشر المثقّفين في أقفاص المكافآت والحسابات والتّكتّلات، وظهرت إلى الوجود كائنات ثقافيّة فظيعة ومشاهد ثقافيّة كاريكاتورية، ومؤسّسات لصناعة الأكاذيب الثّقافيّة وترويجها، تأتينا صورة القرمادي بنفحة من الهواء النّقيّ.
وسيظلّ القرمادي طيف حرّيّة. إلى اليوم لم تنشر بعض مؤلّفاته. ولم يتحوّل هو إلى رمز من رموز الثّقافة الرّسميّة، أو صورة من صورها الأبويّة الكابوسيّة. لأنّ سخريّته لاذعة ودعوته إلى الحرّيّة والتّعدّد لا يمكن أن تنصهر ضمن أيّ من إيديولوجيّات الوفاق والوحدانيّة، ولأنّ شعره لا يبالي بصناعة الشّعر. لن تحوّله "صناعة الأموات " إلى صنم من أصنام "بنتيون" الأمّة.
أمّا اللّحمة الحيّة وغيرها من مؤلّفاته التي تقطر إلى اليوم ماء حياة وينبعث منها الهزل السّاخر من كلّ اللّغات الخشبيّة، فقد أفلتت من يد الرّقابة الوطنيّة والعربيّة، ولن تفتكّها يد التّفتيش التي استيقظت في شتّى أنحاء العالم العربيّ مطالبة كلّ يوم بأكباش الفداء، منتقمة لـ"ثوابت" تجمّدت من فرط ثباتها، ولـ"مقدّسات" اهترأت من فرط التّشبّث بها.
:
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire