عبدالحميد الطبـّابــــي
حسب ما تسرّب عن مشروع القانون الجديد المتعلّق بإحداث الهيئة الوطنية المستقلّة للانتخابات، فإنّ تعيينها سيتمّ من طرف المجلس الوطني التأسيسي، حتى تبدو بأنّها تكتسب الشرعية، لكنّ ذلك حقّ أريد به باطل، مثلما سنبيّنه لاحقا. كما ستقع تسمية هذه اللجنة بقرار "جمهوري" لمدّة ثماني سنوات كاملة، وهي صفة مبتدعة من طرف صائغه.1
النيّة واضحة في منح الأغلبية في المجلس التأسيسي حقّ تعيين أعضاء الهيئة التي ستتركّب من 7 أعضاء فقط، بينما كانت الهيئة السابقة التي ترأسها كمال الجندوبي، تضمّ 16 عضوا وقع اختيارهم على أساس المحاصصة بين الهيئات المهنية (قضاة، ملحقون قضائيون، محاسب، إعلامي، حقوق الإنسان، أساتذة جامعيون، مختص في الإعلامية، ممثلان عن التونسيين بالخارج).2
من خلال صيغة القانون المقترح لتعيين الهيئة الوطنية المستقلّة للانتخابات، بات المقصد واضحا والنيّة تتّجه نحو السيطرة التامة على الانتخابات المقبلة بما في ذلك إمكانية تزويرها عن طريق هذه الهيئة التي ستكون تحت السيطرة التامة لتشكيلة الترويكا، تعاضدها في ذلك وزارة الداخلية التي أصبحت، بما يحدث فيها من تحويرات متسارعة، تحت الهيمنة المطلقة لحركة النهضة.. ولا يتعلّق الأمر بالانتخابات القادمة فقط، بل سيتعدّاه إلى الدورتين النيابيتين المقبلتين، نظرا لأنّ مدّة انتصاب الهيئة حدّدت، حسب مشروع القانون، بثماني سنوات.3
حسب مشروع القانون أيضا، ستجد الأطراف الأخرى نفسها مقصية من المشاركة في الهيئة الوطنية المستقلّة للانتخابات، أو يكون دورها محدودا جدّا، نظرا لما ستكون عليه تمثيليتها الضئيلة.. وهكذا تفقد هذه الهيئة استقلاليتها وتصبح هيئة موظفة في خدمة الشق المهيمن على المجلس التأسيسي. ومن هنا يتكشّف الوجه الحقيقي للنهضة التي تنزع نحو بسط نفوذها على كلّ هيئات الدولة وبالتالي فرض سلطة الاستبداد، من خلال استغلال الشرعيّة لضبط قوانين على مقاسها تسيطر بها على مفاصل الدولة وتتحكّم بها في سير العملية السياسية لتجعلها خاضعة لإرادتها، حتى تؤبّد استمرارها في السلطة، مقصيّة جميع الأطراف الأخرى التي يتركّب منها واقع البلاد السياسي والاجتماعي.4
إنّ الهمّ السياسي لحركة النهضة اليوم، ليس التفكير في منوال التنمية الملائم للبلاد التونسية والقضاء على الظواهر التي تعيق انطلاق الاقتصاد ولا كيفيّة الخروج من الأزمة الاجتماعية التي تفاقمت إلى حدّ فاق درجة تحمّل المواطن التونسي. بل كلّ ما عايناه منها، منذ اعتلائها سدّة الحكم، هو اجتهادها الدائب لتأمين بقائها في السلطة باعتماد أسلوب الالتفاف واستغلال ما تدّعيه من شرعيّة (في حين أنّها تمثّل أقليّة بالمجتمع التونسي، وقد أوضحنا هذا في مناسبتين سابقتين) لوضع أطر قانونية وهيكلية لترسيخ بقائها في السلطة.. وهذا ما يجعل جلّ الوقت الذي يستغرقه عمل خبراء النهضة، يصرف في التوصّل إلى الصّيغ والتراتيب التي تجعل هذا الحزب يدخل الانتخابات القادمة وهو مطمئن على نتائجها سلفا، خاصة وأنّه لا يمكنه التعويل على أدائه الحكومي الهزيل لشلله التام في توفير الحلول لمشاكل المجتمع التونسي وتغاضيه عن تلبية استحقاقات الثورة من محاسبة رموز الفساد وتنفيذ الإصلاح الإداري والقضائي وتطهير الجهاز الأمني وحماية الاقتصاد الوطني من التخريب، حيث أنّ الظاهرة تفاقمت أكثر مما كانت عليه في الماضي. في المقابل صار يعوّل على خدمات بعض الرموز التي خدمت بإخلاص نظام بن علي، من خلال تسميتها في مناصب هامة بالدولة، وإعادة تسخير الجهاز البوليسي لقمع التحركات بجميع أشكالها وخاصة المطلبية منها وتجييش الميليشيات الظلامية لقمع الحريات الشخصية والتعبير والتفكير والإبداع وخنق كلّ ما هو مستنير في هذه البلاد إلخ.. هذا بالإضافة إلى عجزه عن معالجة الوضع المعيشي الذي بلغ مستوى الحضيض بشريحة واسعة من التونسيين وإخفاقه في الحد من نسبة البطالة التي تفاقمت بشكل أصبح من المستحيل علاجها بنمط التنمية المعتمد حاليا. وبالتالي فإنّ النهضة وأمام عدم توفّقها في توفير الحلول الناجعة لمختلف هذه المشكلات الاجتماعية التي تواجهها وعدم قدرتها على تحقيق أهداف الثورة ومستحقّاتها، مع فقدانها للشجاعة المعنوية والأدبية للمجاهرة بذلك، صارت تسعى للهيمنة على دواليب الدولة، على نمط التجمّع الدستوري المنحلّ ومن قبله الحزب الاشتراكي الدستوري، باستغلال وضعها كماسكة بالسلطة وصاحبة أغلبية في المجلس التأسيسي، لتفرض التشريعات وتحدث الهيئات والتسميات الإدارية الموالية وغير ذلك من الإجراءات..5
إنّ الحالة السياسية التي أصبحت تشهدها البلاد منذ صعود الترويكا إلى الحكم، تعكس لنا تصوّرا غامضا لمصير الثورة. كما أنّ التقدير الذي بدأ ينتاب الكثير من التونسيين، هو أنّ هذه الثورة سائرة نحو الإخفاق، بل هي تعرج نحو وضع أكثر قتامة من السابق، لو تواصلت قيادة البلاد بنفس التوجّه الحالي وبعقلية الاستبداد التي بدأنا نلحظها في مؤسساتها السياسية وما تستبطنه من احتقار للصوت المخالف وسحقه تحت عجلة إدّعاء الأغلبية.6
لقد بدا واضحا بأنّ هذه الحكومة تعتمد أسلوب المؤامرة والخطط المحبوكة للتحكّم في العملية الانتخابية القادمة، وبالتالي نيّتها في تزييف إرادة الشعب التونسي.. وهي بذلك تستخفّ بمقاصد الثورة ومعانيها وما استبطنته من معايير وقيم ورغبة الشعب في فرض خياراته الحرّة والتخلّص من أشكال الاضطهاد والقهر والعسف التي مورست ضده طيلة قرون وليس عشرات السنين فقط.. بات جليا أيضا بأنّ هذه الحكومة لا يعنيها ما عاناه الشعب التونسي من مرارة وعذابات وإذلال وفساد، لكي تفتح له باب الأمل الديمقراطي وفسحة الحريّة، بقدر رغبتها الجامحة لاستمرارها في السلطة.. إنّنا نلمس لهفة غريبة عند هذا التحالف الحكومي لفرض سطوته على الشعب التونسي وتكييف إرادته حسب اختياراته كفريق حاكم وليس بما تقتضيه المبادئ التي قامت عليها الثورة، معتمدا في ذلك على تفوّقه العددي بما يسمّى بالمجلس التأسيسي (وليس في المجتمع)، هذا المجلس الذي فقد هذه الصفة، مذ أن أصبحت صياغة الدستور مهمّة ثانوية بالنسبة له.7
وبالتالي، وأمام جملة هذه التحديات التي يواجهها المجتمع التونسي، بما فيها من اختزال للردّة بالثورة وإعادة إنتاج نمط استبدادي جديد يكون أكثر وطأة من سلفه، فإنّ كافة القوى الوطنيّة الديمقراطية مدعوّة اليوم، وبصفة مستعجلة إلى الصحوة لتوحيد جهودها حتّى تتصدّي لهذا المشروع الغادر، الذي سيكون مفعوله مدمّرا لو توفّق أصحابه في إتمام إنجازه وتحقيق مقاصده.. إنّ تأسيس هيئة وطنيّة تمثّل الأحزاب والجمعيات والمنظمات وحتى الشخصيات التقدمية المستقلّة وتشمل جميع جهات البلاد، للتصدّي لمشروع الغدر بالثورة وفرض البديل الديمقراطي، هي مهمّة أصبحت تفرض نفسها بإلحاح في هذه المرحلة المفصليّة من تاريخ الثورة التونسيّة.. يجب أن يستيقظ ضمير الوطنيين في هذه البلاد ليقدّروا جسامة الخطر المحدق بمجتمعنا وما يفرضه عليهم التاريخ كنخبة وطلائع، من مهام ملحّة للحيلولة دون تخريب ثورة شعب لطالما انتظرها وضحّى من أجلها بالنفس والنفيس.. لابدّ من الإسراع بتأسيس هذه الهيئة لتشمل جميع القوى الديمقراطية الحقيقية، وتكون ذات أهداف محدودة وواضحة ولعلّ أهمّها التصدّي لمشروع الهيمنة من السلطة الحالية ونزوعها لإحباط أهداف الثورة التونسية، إلى جانب السعي لتأطير التحركات الاجتماعية التي تنفّذ اليوم، بأشكال عشوائية وفوضويّة، والتي هي بصدد استنزاف الطاقة النضالية للجماهير من خلال تشتيتها وانفصال ترابطها وإحباطها معنويا مع فقدانها لكلّ استراتيجيا ثوريّة.8
10 ماي 2012
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire