skip to main |
skip to sidebar
إلى جلبار نقّاش، ردّا على مقالك الأخير
مع كلّ احترامي لك مناضلا وإعجابي بك كاتبا وروائيّا، فإنّني انزعجت عندما قرأت مقالك الأخير، وقلت في نفسي : ها هي القوى الدّيمقراطيّة ستكرّر نفس الأخطاء وستخوض الانتخابات القادمة مشتّتة ضعيفة لسبب آخر هو أنّها تخطئ في تشخيص قوى الثّورة المضادّة، فتراها في من تسمّيهم "الدّساترة"، وتعتبرهم- بتفكير ماهويّ إقصائيّ لم أعهده في كتاباتك- كتلة واحدة تمثّل الدّكتاتوريّة. هل يصحّ التّعميم، وهل تصحّ ملاحقة الميّت لمعاقبته بعد موته؟
أليست هذه خطيئة الملك كريون في تراجيديا "أنتيغون"؟ "التّجمّع" لم يعد موجودا كهيكل حزبيّ، فقد تمّ حلّه وعوقب قياديّيوه بحرمانهم من التّرشّح إلى المجلس التّأسيسيّ.
لا شكّ أنّ العدالة الانتقاليّة يجب أن تواصل مجراها حتّى تحاسب التّجمّعيّين السّابقين الذين ثبت تورّطهم في الفساد او القتل أو التّعذيب. ولكن هل يحقّ لنا إقصاء أيّ قوّة سياسيّة تريد أن تعتبر الفكر البورقيبيّ أحد مراجعها، بتعلّة أنّها تمثّل "التّجمّع"؟ ثمّ أليس التّجمّع عقليّة أوّلا وقبل كلّ شيء : آليّات تفكير لانقديّ، وآليّات هيمنة على الدّولة، وأساليب إقصاء للمعارضة بل وتجريم لها ؟
التّجمّع بهذا المعنى، سيّدي جلبار، موجود في الموقع الذي صمت عنه مقالك : في الحزب الحاكم الحاليّ، وأقول الحزب الحاكم لأنّني أعتبر "الائتلاف" الحاكم "كرتونيّا"، فكلّ المؤشّرات تدلّ إلى حدّ الآن على ذلك، ممّا لا يسمح المجال بشرحه. بل إنّ هذا التّجمّع الجديد يمكن ان يلعب دورا أسوأ من دور الحزب الحاكم السّابق إذا أتيح له تمرير دستور محافظ وبرنامج لا يقطع الصّلة بالإسلام السّياسيّ، ويكرّس إضافة إلى ذلك ليبراليّة اقتصاديّة أكثر عداء للطّبقات الكادحة (بما انّ الله يحبّ الأغنياء، حسب تصريح للسّيد الغنّوشي).
في العهد البائد كنّا نواجه القمع والفساد. في هذا العهد علينا أن نواجه نزعات الهيمنة والفساد يضاف إليهما شبح اللّاهوتيّة-السّياسيّة التي قد نطردها من الباب فتعود من كوات صغيرة أخرى : من دستور قد يتضمّن فصولا لامدنيّة، ومن برامج لنشر الفتاوى ولإحلالها محلّ القوانين الوضعيّة، ومن تسامح مع قوى التّديّن المتناقض مع الحياة المدنيّة.
هل سيصبح يسارنا دونكيشوتيّا، مصارعا لطواحين الهواء، كليل العين عن القوى التي يمكن أن تطحن أحلامه، بعد ثورة كانت فاتحة لتحقيقها ؟
سيّدي جلبار، أنت مقيم بباريس ربّما، ولا ألومك على ذلك، بل أحيّي وطنيّتك. لكنّك ربّما لم تعش سنة ما بعد الثّورة بيوميّها وتفاصيلها ووقائعها المحسوسة .
هل تعرف الكمّ الهائل من التّجمّعيّين الذين وجدوا ملاذا في حزب النّهضة ، أو صوّتوا لها أو أسّسوا جمعيّات تابعة لها ؟ هل تعرف كيف انقلب التّجمّعيّون الذين كانوا يسيطرون في الماضي بطريقة مافويّة على القرى والمدن إلى نهضويّين حتّى يحافظوا على نفوذهم، وكأنّهم انتقلوا إلى النّهضة لحماية أنفسهم من محنة التّغيّر الدّيمقراطيّ ؟
ثمّ هل سمعت ما قاله السّيد الصّادق شورو في المجلس التّاسيسيّ عن المعتصمين من الفقراء الغاضبين، عندما لوّح بإمكانيّة تطبيق حدّ الحرابة عليهم-بتقطيع أوصالهم كما تنصّ على ذلك "الشرّيعة" ؟ هل تعرف أنّ الكثير من أنصار النّهضة وبعض قياديّيها يستعمل نفس الأساليب "التّجمّعيّة" التي تجرّم المعارضة وتعتبرها تعدّيا على الشّرعيّة الانتخابيّة و"انقلابا"؟
هل تعرف أنّ حزب النّهضة أعدّ مشروعا للدّستور ربّما ينصّ احد فصوله على أنّ "الشريعة مصدر أساسيّ للتّشريع"؟
ألا ترى معي أنّ النّهضة لم توضّح علاقتها بالسّلفيّة ذات الوجه الدّعويّ العنيف، ولم تعش قطيعة مفكّرا فيها مع المشروع التّيولوجويّ السياسيّ للإسلام السّياسيّ ؟
تتوالى الأخطاء والهفوات الأخلاقيّة وزلاّت اللّسان، ولا نجد النّهضة تعتذر، بل تبرّر وتوضّح. وأعتقد أنّها لا تعتذر لأنّها لم تتحوّل بعد إلى حزب ديمقراطيّ يقبل المراجعة والنّقد الذّاتيّ.
وفي المحصّلة : ألا ترى معي أنّ كلّ الاعتبارات السّياسيّة وكلّ الخصومات التّقليديّة بين ما يسمّى "اليمين" و"الوسط" و"اليسار" تصبح ثانويّة إذا تعلّق الأمر بأسس الجمهوريّة وبالشّروط الدّنيا للمساواة وللحرّيّات العامّة والخاصّة ؟
ثمّ أرى أنّك تتجنّى كثيرا على الباجي قايد السبسي عندما تعتبر أنّ دوره تمثّل في إعادة التجمّعيّين إلى السّلطة. ربّما لعب هذا الدّور إلى حدّ ما لكن لغاية واحدة هي الحفاظ على توازن ضروريّ بعد كلّ ثورة حتّى لا تنقطع السّلم الاجتماعيّة وتتحوّل الثّورة إلى فوضى يمكن أن ينجرّ عنها عنف لا تقدر الدّولة على ضبطه. لكنّه في كلّ مظاهر أدائه كان ديمقراطيا، فلم يضغط على وسائل الإعلام كما تفعل الحكومة اليوم، وسمح للهيئات العليا بأن تعمل مستقلّة، وسمح للانتخابات بأن تكون، وتصرّف كرجل دولة أوّلا وكديمقراطّي ثانيا.
ذلك انّ الثّورة غيرت وتغيّر النّاس.
ولا أستبعد ان يصبح دستوريّ الخمسينات والستينات ديمقراطيّا اليوم. أنا نفسي غيّرتني الثّورة وفتحت عينيّ و فمي، وأهدت إليّ وسيلة الفايسبوك، فأصبحت أكتب في السّياسيّ المباشر، بعد ان كنت أدور في مجالات الفكريّ النّقديّ البعيدة نسبيّا عن السياسة، وإن كان الفكر النّقديّ ثوريّا بطبعه .
أنا لا أرى مثلك أنّ سبب الفشل في الانتخابات هو الثّورة المضادّة التي تمثّلها سياسة السبسيّ. السبب الرئيسيّ حسب رأيي هو تشتّت اليسار والقوى الليبرالية والعلمانيّة، وقلّة صلتها بالواقع الاجتماعيّ وبالواقع السّياسيّ الجديد وهذا ما يكرّسه مقالك إلى حدّ ما. للأسف.
وأخيرا، أتفهّم غضبك المستمرّ على من سجنوك وسجنوا وشرّدوا الكثير من شباب جيلك. وأعتقد أنّ المحاسبة القانونيّة والرّمزيّة ضروريّة لطيّ صفحة الماضي. لكن الحداد، الحداد على كلّ شيء بما في ذلك مظالم الماضي، عمليّة نفسيّة مستقلّة إلى حدّ ما عن المحاسبة، و ضروريّة لكي تقرأ الذّات الواقع الجديد بأقّلّ ما يمكن من الحجُب.
دمت بخير
0 commentaires:
Enregistrer un commentaire