الدّعاة الجدد :
من التّحريض إلى التّنويم
"الدّعاء سلاح خطير لمن يدرك قيمته" هو أحد الشّعارات التي يرفعها الدّاعية "الأستاذ عمرو خالد" في الصّفحة الأولى من موقعه على الأنترنيت، وهو ذو دلالة هامّة على الأفق الذي يتحرّك فيه هذا الدّاعية-النّجم وغيره من الدّعاة الجدد أمثال خالد الجنديّ. فالمفترض الذي نقرأه من خلال هذا الشّعار هو أنّ السّلاح الذي يرفعه هؤلاء غير السّلاح الذي رفعه أنصار الإسلام السّياسيّ الجهاديّ أو التّكفيريّ : إنّه سلاح من ترك حمل السّلاح، في ظرفيّة تتّسم رغم كلّ شيء بتضاؤل دور الإسلام السّياسيّ لا سيّما بعد تفجيرات 11 سبتمبر وبعد التّفجيرات التي طالت المدن العربيّة ولم يكن بإمكان الجماهير العريضة التّعاطف معها.
هؤلاء الدّعاة الجدد يركّزون على العبادات وعلى التّقوى أكثر من تركيزهم على الشّأن العامّ، ويبتعدون عن الدّعوة إلى التّغيير السّياسيّ ويتجنّبون إثارة القضايا المحرجة وهو ما يفسّر الحظوة التي يلقونها لدى بعض أصحاب السّلطة في العالم العربيّ. وليس الـ"نيو لوك" لهؤلاء بمعزل عن توجّههم اللاّسياسيّ الوعظيّ : وجوه هؤلاء الدّعاة الباسمة وكلماتهم الرّقيقة وأناقتهم الشّبابيّة وتحلّلهم من العمامات والطّرابيش من أمارات اختلافهم أو رغبتهم في الاختلاف عمّن يمثّلون الإسلام الجهاديّ والتّكفيريّ.
إنّهم يدّعون اليسر بدل العسر ويتكلّمون لغة المحبّة، وتختلف فتاواهم أحيانا عن فتاوى الشّيوخ الرّسميّين، وأبرز مثال على ذلك أنّ خالد الجنديّ اعتبر التّبرّع بالأعضاء واجبا واستدلّ على ذلك بآيات قرآنيّة غير الآيات التي استدلّ بها المفتي المصريّ الرّسميّ مؤخّرا لتحريم التّبرّع بالأعضاء ونقلها.
هذا جانب أوّل قد يبدو لنا إيجابيّا، ولكنّ هذا الإيجابيّ لا يعدو أن يكون جزءا من واقعنا الثّقافيّ والسّياسيّ البائس.
فليس من الغلوّ أن نتحدّث أوّلا عن "بيزنس دينيّ" يتحرّك في إطاره هؤلاء الدّعاة الذين يحصّلون ثروات طائلة من دعوتهم، ومن تحوّلهم إلى نجوم تلفزيّين ينافسون نجوم كرة القدم والفيديو كليب. وعلى المختصّين في سوسيولوجيا الثّقافة أن ينكبّوا على دراسة الظّاهرة من النّاحية الاقتصاديّة والطّبقيّة والسّياسيّة دراسة ترتفع عن الشّتيمة والنّزعة الفضائحيّة التي يركن إليها بعض الكتّاب المناصرين للإسلام السّياسيّ في فضحهم لهؤلاء الدّعاة. ومن المفيد أيضا تسليط وجهة نظر الأنتروبولوجيا الدّينيّة على هذه الظّاهرة، وعلى أهمّيّة الدّعاء في مواقع الأنترنيت الخاصّة بهؤلاء الوعّاظ : الدّعاء لا باعتباره سلاحا فحسب، بل باعتباره منطلقا لمبادلات بين المعجبين والوعّاظ : طلب الدّعاء من أجل شفاء شخص، التّسليم بقدرة سحريّة لهؤلاء الوعّاظ، اضطلاعهم ربّما بوظيفة الأولياء الصّالحين على نحو جديد...
ثمّ إنّ هذه الظّاهرة تزدهر على أرضيّة من الفقر المعرفيّ والجهل بالمعارف الإنسانيّة الحديثة، بحيث أنّ معادلة ساذجة من قبيل المعادلة شبه الرّياضيّة التي طلع بها عمرو خالد على مريديه مؤخّرا : "إرادة+ إخلاص+دعاء+تخطيط سليم=نجاح أكيد" يستقبلها هؤلاء المريدون وكأنّها حلّ سحريّ لمشاكل العالم، والحال أنّها تدلّ على تسطيح للذّات البشريّة وتجنّب لطرح المشاكل الحقيقيّة. هل الإنسان يعرف كلّ ما يريد؟ هل قرأ الدّاعية شيئا ممّا كتب عن فلسفة الإرادة، وشيئا ممّا كتب عن ذات الرّغبة وذات اللاّوعي؟ هل يكفي ما ذكر لتحقيق النّجاح؟
أيّ نجاح للفرد إذا كانت العوائق الاجتماعيّة والسّياسيّة تحيط به من كلّ جانب؟ العاطل عن العمل هل تكفيه الإرادة والإخلاص والدّعاء والتّخطيط السّليم لكي يجد عملا ويحقّق النّجاح التّامّ؟ أيّ سنوات ضوئيّة تفصل هؤلاء عن المعارف الحديثة التي أنتجت حول الذّات البشريّة؟ أيّ مقدار من التّمويه يمكن أن يدير وجوهنا عن قضايا البؤس والفقر واللاّمساواة، بحيث نختزل حياة الإنسان ومشروعه في تعويذات من هذا القبيل؟
إنّ هؤلاء الدّعاة ليسوا مصلحين دينيّين وأعتقد أنّهم لا يختلفون عن الجهاديّين والتّكفيريّين في مفترضاتهم الفكريّة والقيميّة الكبرى : في نظرتهم الأخلاقيّة التّقليديّة للعلاقات الأسريّة والاجتماعيّة وفي تصوّرهم للتّاريخ والمصير. إنّهم لا يصدرون عن نقلة معرفيّة تعيد مفصلة ما هو فرديّ وما هو جماعيّ، ما هو دينيّ وما هو دنيويّ. وهم يميلون إلى أخذ العصا من الوسط، فلا يعارضون عمل المرأة خارج البيت كما فعل غيرهم من الأصوليّين، ولكنّهم يرون أنّها يمكن أن تعمل "إذا أرادت"، وأنّ الأولويّة مع ذلك تبقى للأسرة والبيت. ولئن كان التّكفيريّون يرفضون التّاريخ ويطالبون بالعودة إلى الأصل فإنّ هؤلاء يموّهون ويعمدون إلى الخلط التّاريخيّ : فممّا يفاجئنا به عمرو خالد، وما قد يحيّر كلّ المؤرّخين بعموميّته وإطلاقيّته ولا شكّ أنّ "المرأة قبل الإسلام وفي صدر الإسلام كانت تعمل..." وهو يقصد طبعا عمل المرأة خارج البيت.
إن كان هؤلاء الدّعاة مصلحين فما أبعدهم عن محمّد عبده ومحمّد إقبال، وإن كانوا روحانيّيّن فما أبعدهم عن محيي الدّين بن عربيّ ولسان الدّين بن الخطيب.. عصر الانحطاط، بل عصر النّزول إلى الدّرك الأسفل، أليس ما نعيشه نحن اليوم؟
وددت لو لم نخيّر بين الطّاعون والكوليرا كما يقول الفرنسيّون، أو بين الطّاعون ومرض أقلّ خطورة، أن لا نخيّر بين التّحريض على العنف والتّنويم المهدهد للأوهام والآلام، أن لا نخيّر بين قيد قصير يفرضه علينا المكفّرون والمحرّمون لكلّ شيء وقيد أطول يفرضه علينا هؤلاء المتاجرون بالآخرة والمحوّلون لأنظارنا عن قضايا الظّلم والعنف واللاّمساواة والفراغ السّياسيّ.
إنّنا لا نريد إسلاما سياسيّا ولكنّنا لا نريد بؤس اللاّسياسة أيضا، لا نريد هذا لأنّ أبناءنا يستحقّون تربية أفضل من دروس هؤلاء الدّعاة : تربية على الحرّيّة والمسؤوليّة وعلى المواطنة والمساواة