في سنة 1929، أي منذ ما يزيد عن سبعين عاما كتبت الفتاة السّوريّة نظيرة زين الدّين، ولم تتلعثم : "إنّ الشّرائع السّماويّة لا تقيّدنا تقييدا ثابتا إلاّ في علاقاتنا مع خالقنا سبحانه وتعالى، ذلك في أصول الدّين والإيمان. وأمّا أمور دنيانا، وقواعد حياتنا، والمعاملات والعلاقات بيننا فهي تابعة بمقتضى تلكم الشّرائع لحكم العقل، ومتحوّلة بمقتضى المصلحة والزّمان". (الفتاة والشّيوخ)
وبعدها بقليل كتب التّونسيّ الطّاهر الحدّاد، خرّيج الجامعة الزّيتونيّة، ولم يتلعثم : "لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعيّة بينهما عند توفّر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التّامّة وروح الحقّ الأعلى، وهو الدّين الذي يدين بسنّة التّدريج في تشريع أحكامه حسب الطّوق". (امرأتنا في الشّريعة والمجتمع)
يضيق المجال عن ذكر ما وقع ولم يقع خلال الأعوام السّبعين الماضية، وعن ذكر المدّ والجزر، مدّ الإصلاحات وجزر الدّعوات السّلفيّة المشيّئة للنّصوص المقدّسة والمتاجرة بالآخرة والرّافضة للعدالة وللتّاريخ، ولكنّ الخبر الذي وصلنا مؤخّرا عن قرار مجلس الحكم الانتقاليّ العراقيّ بتطبيق الشّريعة الإسلاميّة في مجال الأحوال الشّخصيّة بليغ في التّعبير عن مآل المرأة العربيّة في سنة 2004 : تتغيّر الأنظمة ويحدث ما يحدث وتظلّ المرأة كبش الفداء الدّائم لألعاب السّياسيّين وتكتيكاتهم ولمهاترات مجانين الهويّة وعبيد الماضي.
يجب أوّلا أن نفضح المغالطة المكشوفة في استعمال كلمة "الشّريعة". فالشّريعة لغة واصطلاحا ليست مجموعة أحكام قانونيّة مضبوطة بل هي "طريق" المؤمن، إنّها مجموعة من المبادئ الأخلاقيّة العامّة والتّوجيهات التّربويّة التي لا نظنّها تتناقض مع مطلب المساواة التّامّة بين النّساء والرّجال : الشّريعة التي ينساها الشّيوخ الذين نصّبوا أنفسهم سدنة على الإسلام هي حُرمة النّفس البشريّة، والإحسان والرّحمة وعدم قهر اليتيم والرّفق بالمسكين وترك الكذب والنّميمة وترك الاستكبار وعدم حبّ المال حبّا جمّا... أمّا الشّريعة التي يريدونها فهي أحكام الفقه القديم وقد تمّ تأبيدها وتمّ ابتناء أسطورة صلوحيّتها " لكلّ زمان ومكان".
الفقه منظومة بشريّة صنعها الفقهاء انطلاقا من بضعة آيات في الأحكام ليست إلاّ جزءا ضئيلا من القرآن، وهذه المنظومة رغم كلّ الاختلافات بين المذاهب والآراء، كلّ منسجم قائم على مراتبيّة اجتماعيّة واضحة، أعلاها الرّجل الحرّ تليه المرأة الحرّة يليها العبد الذّكر، تليه الأمة والصّبيّ والمجنون...، وكلّ الأحكام والضّوابط فيها تراعي هذه المراتبيّة. فهي تنبني على اشتراط الذّكورة في كلّ المسؤوليّات العامّة وفي الاجتهاد والإفتاء، وتنبني على مبدإ القوامة، أي رئاسة الرّجل، كما تنبني على أفضليّة المسلم على غير المسلم الذي يشاركه رقعة الأرض.
فهل يمكن أن يكون الفقه، وهو منظومة قائمة على التّمييز، منطلقا لبناء المواطنة والمساواة بين الرّجال والنّساء، وبين المسلم وغير المسلم في ظلّ دولة حديثة؟
الفقه جعل المرأة تحت وصاية الأب والزّوج ومنعها من الطّلاق متى أرادت، وفرض عليها تعدّد الزّوجات، وقنّن مراقبة جسدها وخروجها وعلاقاتها، وقنّن عدم المساواة بينها وبين الرّجل في الميراث والشّهادة، ونفى أهليّتها لتولّي الأمور، وغير ذلك ممّا يتمسّك به فقهاء هذا العصر ويتفاوتون في مدى إخفاء قساوته الحاضرة، وفي مدى تجميله تحت الشّعارات الببّغاويّة : الشّريعة كرّمت المرأة، الشّريعة أقرّت المساواة... فهل يمكن أن يكون الفقه ضمانا لحياة كريمة للنّساء في عصرنا؟
ولا بدّ ثانيا من فضح النّفاق والازدواج القانونيّ الانفصاميّ التي تسير عليه سائر تشريعاتنا ونظمنا وإن بتفاوت كبير بين البلدان : ويتمثّل ذلك في اللّجوء إلى القرآن والسّنّة كلّما تعلّق الأمر بالتّشريع في مجال الأحوال الشّخصيّة من جهة، والتّجاهل شبه التّامّ لهذه المصادر الدّينيّة كلّما تعلّق الأمر بالتّشريع في مجال القانون المدنيّ أوالقانون الجنائيّ، أو غير ذلك من فروع القانون. فما يسمّى اليوم بـ "الشّريعة" هو إجمالا قانون الأحوال الشّخصيّة الإسلاميّ، أي : آخر حصن يضمن استمرار الصّيغ العلائقيّة التّقليديّة بين الرّجال والنّساء، وبعبارة أخرى : يضمن الحطّ من شأن المرأة ومراقبة أفعالها وجسدها وتأثيمها على نحو هوسيّ.
لقد تمّ إبطال الرّقّ واختفت الوضعيّة القانونيّة للعبد والأمة دون ضجّة تذكر، واختفت الأحكام الفقهيّة المتعلّقة بالقانون الجنائيّ في أغلب البلدان العربيّة رغم تقنين القرآن لها في "آيات صريحة"، وأبطل العمل بمنع الرّبا رغم "الآيات الصّريحة"... أمّا وضعيّة المرأة فمازالت مرهونة بـ"الآيات الصّريحة" وبآراء الفقهاء...
تقول الأسطورة اليونانيّة إنّ الآلهة حكمت على نصف الآلهة سيزيف برفع صخرة صمّاء إلى أعلى قمّة جبل، وتقول إنّ هذه الصّخرة تتدحرج في كلّ مرّة فيعود سيزيف إلى رفعها وهكذا... والشّريعة الفقه هي الصّخرة التي حكم على النّساء العربيّات برفعها إلى أعلى الجبل، حتّى تتدحرج من جديد وتوشك على سحقهنّ فيعدن إلى رفعها. فكلّ ما تحقّق من مكاسب في بعض البلدان العربيّة هي عرضة إلى السّقوط والتّراجع.
أذكر أنّ الدّعوات الأصوليّة ارتفعت في تونس في آخر الثّمانينات مطالبة بمراجعة مجلّة الأحوال الشّخصيّة، مطالبة بالتّراجع عن منع تعدّّد الزّوجات وبتطبيق "الشّريعة"، وأذكر أنّنا خرجنا إلى الشّوارع لنطالب بالحفاظ على ما تحقّق من مكاسب المساواة، كما خرجت نساء العراق اليوم، ولكنّنا ما زلنا نطالب بالمساواة التّامّة لأنّها لم تتحقّق بعد، وما زلنا نطالب برفع التّحفّظات عن اتّفاقيّة "مناهضة جميع أشكال التّمييز ضدّ المرأة"، وما زال يطلّ علينا شيوخ الإفتاء والأدعياء ليقولوا من أعلى منابر الفضائيّات العربيّة إنّهم يودّون فتح تونس من جديد لأنّها كافرة بقوانينها في ما تعلّق بالمرأة. ما يجمع كلّ النّساء العربيّات ويوحّد قضيّتهنّ وما يجعلني أسارع لكتابة هذا المقال ولمساندة العراقيّات اليوم هو هذه الصّخرة التي ندفعها جميعا فتطلّ علينا من جديد.
إنّ في تحويل ما هو ظرفيّ تاريخيّ إلى أحكام مؤبّدة تقضي على المرأة بالبقاء في أسر القوّامين عليها، وتقضي على الشّعوب بعدم الارتقاء إلى درجة المواطنة، عنفا هو عنف مقاومة تيّار التّاريخ، وعنف الرّضوخ إلى الجنون الدّينيّ الذي تنظّمه وتنشره المنابر العربيّة بفظاعة لم يسبق لها مثيل.
وفيه عنف آخر هو عنف الغبن: والغبن هو أن يمنع صاحب الحقّ الذي هو أهل له ممّا هو أهل له، فالنّساء العراقيّات والعربيّات عموما أصبحن أهلا لوضعيّة أفضل من الوضعيّة الدّونيّة التي تسجنها فيها الشّريعة-الفقه.
وفيه عنف آخر خاصّ بالعراقيّات هو عنف العودة إلى الحضيض السّياسيّ بعد بوادر الخروج منه، وكأنّ كابوس النّظام الدّمويّ السّابق انقشع ليظهر كابوس امتهان المرأة باسم الشّريعة وكابوس الطّائفيّة واللاّمواطنة.
أين "رموز الثّقافة العربيّة" من قضايا المرأة؟ لماذا لا يستغلّون ثقل أسمائهم وسطوع نجومهم لنصرة النّساء في العراق؟ لماذا لا يسارعون إلى اتّخاذ المواقف المدينة للإرهاب الدّينيّ مثلما يسارعون إلى تقبّل الجوائز وقبول الدّعوات والتّشريفات؟
لا أتحدّث عن أشباه المثقّفين وأشباه المناضلين وأشباه الحقوقيّين والأميّيّن السّياسيّين على أيّة حال، ممّن كوّنوا خارج العراق لجان دفاع عن الطّاغية صدّام حسين ولم يكوّنوا لجان تحقيق عن جرائمه ضدّ الإنسانيّة ولم يكوّنوا لجان دفاع عن ضحاياه الذين يرقدون رجالا ونساء في المقابر الجماعيّة، وعن ضحاياه من المعذّبين ومن الذين فنيت أعمارهم في الزّنزانات ومن الذين شرّدوا والذين صودروا أو شوّهوا أو أعيقوا والذين ذوت زهرة شبابهم في خوض حروب استعراضيّة لم يريدوها ولم يستشاروا فيها؟ هؤلاء العبيد المدافعون عن جلاّديهم أعرفهم : إنّهم الآن ينتصرون لحجاب المرأة واستعبادها، لأنّ مرض الهويّة يجعلهم لا يرقون إلى مستوى المطالبة بالمساواة بين الرّجال والنّساء، ويجعلهم يتّخذون من حجاب المرأة راية للأمّة الموحّدة المستحيلة التي يحلمون بها.
أين المثقّفون العرب الذين يقولون دون تلعثم ودون خوف من التّكفير وخوف من تضييع الجوائز السّنيّة التي يحلمون بها: أوقفوا مأساة تطبيق الفقه على النّساء العراقيّات وكلّ العربيّات؟
الذين يرفضون الاستعمار الأمريكيّ ولا يرضون بما يجري في العراق، لماذا لا يرفضون أيضا استعمار أشباح الماضي، واستعمار أعداء الحرّيّة وفقهاء الظّلام؟
1 commentaires:
المواطن في البلاد العربية ملدوغ من جهتين: الجهة الأولى هي ممن ركبوا الدين ووصلوا به بعقلية العبد المطيع إلى التخلف والجهة الثانية ممن ركبوا الحداثة ووصلوا به بعقلية التحرر إلى الدكتاتوريات. مع العلم أن الدين والحداثة منهم براء. الطبخة اكتملت ونترقب الجديد؟؟؟
Enregistrer un commentaire